القرآن دستورنا.. رمزية الشعار وإشكالية المضمون!

الدستور هو أعلى مراتب القانون في "نظام الدولة"، ويصح أن نقول إنه البنية التحتية القانونية للدولة، أو القاعدة التي يقوم عليها هيكل الدولة النظامي. ويتناول الدستور ـ على سبيل المثال ـ الخطوط العريضة للدولة: تقسيماتها الإدارية ونظام الحكم فيها ونوع حكومتها، واختصاصات سلطاتها، وأمنها واقتصادها، ومقدراتها، والشعب: حقوقه وواجباته وثقافته، والمؤسسات العامة والمستقلة.. إلخ. ويُعتبر الدستور المرجعية للقوانين واللوائح كافة التي تصدرها الدولة؛ لهذا لا يمكن بحال أن يتعارض أي قانون أو لائحة مع الدستور، وفي حال حدث التعارض فإن هذا القانون يُعتبر لاغياً من فوره، هو وما يترتب عليه من آثار! إذن نحن إزاء وثيقة قانونية تتناول مفهوم الدولة بركائزه الثلاث: الوطن والشعب والنظام!

> الشعار الذي اختاره مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا ـ رحمه الله ـ لجماعته، وهو يتضمن عبارة: القرآن دستورنا، تحول إلى شعار موهم ومضلل حين حولته بعض التيارات الإسلامية ـ عن طيب نية ـ من شعار يرمز لتطبيق الشريعة إلى مضمون قائم بذاته؛ فالشعارات دائماً وأبداً تحمل رمزية أكثر من مضمون، هي لافتات عريضة تتوارى خلفها الكثير من التفاصيل، عناوين تختزل المعنى، والمعنى هنا ليس أن يكون القرآن الكريم بذاته دستوراً لدولة الخلافة التي كان ينشدها البنا، وإنما المعنى أن القرآن يرمز للشريعة الإسلامية، والدستور يرمز للدولة؛ فالمعنى هنا ليس أبعد من أن الدولة التي ينشدها البنا كانت ملتزمة بتطبيق الشريعة، أي أن ما كان يقصده البنا من هذا الشعار ليس إقرار القرآن دستوراً لدولة الخلافة وإنما مجرد شعار، معناه ومضمونه أن يكون تطبيق الشريعة هو الهدف، والدليل أن جماعة الإخوان لم تطرح فكرة أن يكون القرآن بذاته دستوراً لمصر عندما كتبت الدستور المصري الجديد مع شركائها في تأسيسية الدستور! أضف لكل هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل المدينة كتب دستورها وفصل وأسهب في تفصيل حقوق وواجبات شعبها المتنوع ولم يستغن عن كل ذلك بوضع القرآن الكريم كوثيقة دستورية لدولة المدينة المنورة!

مشكلة بعض التيارات الإسلامية أنها تعاطت مع الشعار حرفياً، وأحالته إلى مضمون حقيقي قائم بذاته؛ فأصبحت تنادي بأن يكون القرآن بذاته دستوراً للبلدان الإسلامية، متجاهلة البُعد الرمزي في الشعار، ومغفلة مفهوم الدستور! وهذه الدعوة غير واقعية نزولاً عند وظيفة الدستور المفصلة تماماً على مقاس الدولة، التي تحدثنا عنها في مطلع المقال. ولا شك أن هذه الدعوة السطحية تسيء للقرآن بوصفه منهجاً متكاملاً للحياة، وتحيله إلى مجرد نظام دولة دون إدراك أو تعمد. وحتى نتخيل حجم الإساءة دعونا نطرح هذا السؤال: هل يصح أن نقول إن القرآن الكريم هو نظام المرور مثلاً؟ أو نظام الخدمة المدنية؟ أو نظام الأحوال المدنية؟ ألا يبدو الأمر مسيئاً للقرآن الكريم؟ فهو كذلك عندما يدعو البعض لأن يكون القرآن الكريم هو الدستور؛ كون الدستور نصاً بشرياً، له وظيفة محددة، يتناول أنظمة الدولة الأساسية، وهو عرضة للخطأ، وقابل للتعديل، ويطرح للتصويت، والقبول والرفض، بعكس القرآن الكريم الذي يقول فيه تعالى (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). كل هذا عدا أن القرآن وحده لا يمثل كل الشريعة الإسلامية، وإنما لا بد أن يكون مقروناً بكل مصادر التشريع المجمع عليها!

لا أجد أي مشكلة في أن يرفع شعار "القرآن دستورنا" على أن يكون شعاراً فقط، يرمز لمضمون أكثر عمقاً هو تطبيق الشريعة من مصادرها كافة المجمع عليها، فتطبيق الشريعة كمضمون للشعار هو الهدف بذاته، وليس أن يكون القرآن الكريم دستوراً، فالشعارات دائماً مخلة وتختزل المضامين، وهذا يمكن تفهمه وقبوله. الإشكالية تبدأ عندما يتحول الشعار إلى مضمون قائم بذاته! لأنه في هذه الحالة مسيء للقرآن الكريم، ومدعاة للطعن في دين المخالفين والتشكيك في عقائدهم واتهامهم بالعلمانية ومعاداة الدين وفق رؤية سطحية وجاهلة لا تفرق بين الشعار والمضمون، ولا تعرف مفهوم الدستور، وفوق كل هذا فهو لن يكون قابلاً للتطبيق، وتجربة الإخوان المسلمين ـ وهم أصحاب الشعار ـ في كتابة الدستور المصري لا تزال حية!



http://sabq.org/jg1aCd