إن العبد أحوج ما يكون لطلب الهداية من ربه؛ لأن العبد وحده لا يستطيع أن يهتدي، ولا يملك مفتاح الهداية، ولا يعرف طريقها، ولا يجيد هذا، ولا يميز بين الحق والباطل والرشد والغي ما لم يهدِه ربه سواء السبيل؛ فالذي يملك الهداية هو الله وحده؛ لا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدى، وهو يهدي من يشاء رحمة وكرماً، ويضل من يشاء قضاء مبرماً، سبق علمه أنه لا يهتدي؛ فوجب على العبد أن يلهج بهذا الدعاء في كل ركعة من صلاته؛ لتصبح المسألة حية في ضميره، سارية في دمه، ماثلة نصب عينيه؛ ليتذكر دائماً نعمة الهداية إلى صراط الله المستقيم، وهي أجلّ نعمة تسدى للعبد، وأعظم مكرمة تُمنح لهذا المخلوق.
والهداية معرفة الحق الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل به، والموت عليه، والبذل لأجله، والتضحية في سبيله، والجهاد لدوام هذا الحق وخلوده وانتصاره وعلوه وعزته.
والصراط المستقيم هو طريق الله الواضح المبين الموصل إلى رضوانه وطاعته ومغفرته وجنته، وهو طريق بيَّنه الله، ودل عليه الرسل، وشهدت باستقامته الكتب، ووافقت على السير فيه الفطرة، ومضى عليه موكب الأولياء، وضوعت به دماء الشهداء، وهو طريق واحد لا ثاني له، فريد لا مثيل له، متميز لا شبيه له، وهو مستقيم أقرب موصل إلى الفوز والفلاح والنجاة، وأسهل معبر إلى الأمن والسكينة والاطمئنان، وأيسر جسر إلى الرضوان والتوفيق. كل المسالك سواه مضطربة، وكل الطرق ما عداه معوجة، وكل السبل غيره متلوية. وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا الله، ولا يدل عليه إلا الرسل وأتباعهم، ولا يسلكه إلا من سبقت له الحسنى، ولا يحيد عنه إلا من حقت عليه الغواية، وكتبت عليه اللعنة، وحاقت به الخطيئة، وأوبقه شيطانه ونفسه وهواه.
وهذا الصراط المستقيم مجمل ومفصل، أما مجمله فهداية عامة لكل من سار على هذا الصراط ومضى في هذا الطريق يريد النجاة من غضب الله والفوز برضوانه. ومفصل هذا الصراط استقامة لا التفات فيها، وقيام بتفاصيل الدين وشعائر الملة، وبذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة الله، وصرف العمر كله في العبودية، وإنفاق ساعات الزمن وأنفاس الوقت في مراسيم الطاعة صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وجهاداً وإنابة ومحبة وخشية وتوبة ورهبة ورغبة، مع المحافظة على سُنن المعصوم، والتحلي بأخلاق القدوة الحسنة، والتأسي بصفات الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم.
وهذا الصراط المستقيم محطاته ومعالمه ومنازله موصوفة في كتاب الله العظيم وسُنّة النبي الكريم، بل إن الرسالة كلها والشريعة أجمعها شرح لهذا الصراط المستقيم، والوحي أوله وآخره توضيح وبسط لهذا الصراط المستقيم. والله جل في علاه على صراط مستقيم، والرسول النبي الأمي يهدي إلى صراط مستقيم، والقرآن الكتاب المعجز يهدي إلى الصراط المستقيم.
فجملة "اهدنا الصراط المستقيم" كلية من كليات الشريعة، وقاعدة من قواعد الإيمان، وأصل من أصول الدين. ولهذه الآية وأخواتها عظم قدر سورة الفاتحة؛ فكانت من السبع المثاني، والشافية والكافية، وأم القرآن، وافتتح بها المصحف، وفرضت في الصلاة، وجمعت فيها الملة، وشفت - بإذن الله - من الأمراض.
فكم من لديغ للشيطان ذاق ترياقها فتعافى، وكم من جريح من أسهم الغواية عب من تميزها فتشافى.. اللهم اهدنا صراطك المستقيم حتى نعبره إليك لنلقاك وأنت راضٍ عنا، محسن إلينا، لطيف بنا، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
http://sabq.org/Bb1aCd