تجمعنا حياتنا الوظيفية بقدراتٍ بشريةٍ راقية تسعى لتخليد بصماتها على كل ما يقع تحت أيديها من مهام وأعمال بلا انتظار مردود أكثر من سماعها كلمات الشكر الجزيل والذكر الجميل!
أبو طلال أحد أصدقائي الذين عملت إلى جوارهم مدة كافية من الزمن تؤهلني لأن أضعه في قائمة المولعين بالتصاميم الفنية إلى الحد الذي يجعله يتسمّر أمام شاشة جهازه لساعاتٍ طويلة لأجل تنقية لون أو إضاءة صورة أو تظليل جسم!
بلغت بأبي طلال الرغبة في الوصول إلى أعلى مستويات الإتقان أن دفع ما يقارب راتب شهر لشراء كمبيوتر "ماكنتوش" على أساس أن إمكاناته في برامج "الفوتوشوب" و"الستريتور" و"التصوير الفوتوغرافي" الخاصّة بالرسوم والتصاميم أجود من المتوافر في مكاتب عمله، وذلك بعد أن كلّفته إدارته بتصميم نموذج ملف ورقي لاستخدامه في معاملاتها ومراسلاتها!
من القصص التي تُروى كثيراً عن وزير الخارجية الأمريكي السابق "هنري كيسنجر" أنه كلف أحد معاونيه المقربين بكتابة تقرير على درجة من الأهمية.. وبعد أن أتمّ المعاون كتابة التقرير وسلّمه لـ "كيسنجر" أعاده إليه مرفقاً به ملاحظة يتساءل فيها: "أهذا أفضل ما تستطيع عمله؟!" كتب المعاون التقرير من جديد وزاده تنميقا وتزويقاً ليسلمه لـ "كيسنجر"، إلا أن التقرير رجع للمعاون مرة ثانية وعليه التساؤل "أهذا أفضل ما تستطيع عمله؟!" راجع المعاون تقريره وحسّن وزيّن فيه منتهى طاقته، ثم دفعه إلى "كيسنجر" ليتلقى التساؤل المقتضب نفسه! عند هذا الحد لم يتمالك المعاون نفسه، فأخذ الورقة المرفقة بالتقرير وواجه "كيسنجر" محدثاً إياه بحدة بالغة: ".. نعم إنه أفضل ما أستطيع" حينها أجابه "كيسنجر" بهدوء: "حسناً.. أظنني سأقرؤه هذه المرة".
بالطبع لم يوفق أبو طلال بمدير يمتلك دهاء "كيسنجر" واحترافه في تطبيق قوانين اللعبة الميكافيلية ليتحاشى الدخول في تفاصيل الصنعة وأسرارها، فالحرص الذي أبداه أبو طلال لتوضيح جزئيات تصميم الملف فتح لمديره باب الاعتراض على رموزه وأحجام صوره ودرجات لونه.. ومع الإعادة والتكرار لم يخرج أبو طلال من مديره بأكثر من وصف الملف بأنه باهت مغبر ومصاب بـ "سفعة شمس".
تعذّر نجاح أبي طلال في تمرير تصميمه ليس بسبب فشله في الوصول إلى المعايير الفنية المطلوبة أو ضعف أدواته ونقص مقدرته الفنية، لأنه قد تمكن لاحقاً من افتتاح وكالة دعاية وإعلان خاصّة به وأصبح "جرافك" على درجة من المهارة ما يسّر له الدخول ضمن مناقصات تجارية، إنما هو في توهّم المحيطين به أن شخصيته التواقة لابتداع الفريد تنطوي على نيّات نفعية لتوطيد العلاقات وتوسيع الصلاحيات.
يحتاج كثير ممّن يديرون فرق العمل أو يشكلونها إلى أن يدركوا شيئاً من طبائع المبدعين وأسرارهم، مثل: حبهم للتميُّز، وحماسهم لأفكارهم، وبغضهم للسلطة والتسلط، واستغراقهم الطويل في ممارسة ما يستهويهم بسبب إفراز عقولهم لمادة "الأندروفينات" التي قد تجعلهم لا يشعرون بلسعة برد أو سفعة شمس!
http://sabq.org/xk1aCd